الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية
منذ اختراع أول حاسوب وفكرة وجود برنامج ذكاء اصطناعي يتخطى ذكاء البشر موجودة، والبحث العلمي في هذا المجال لم يتوقف للحظة وإن كان مر بفترات صعود وهبوط متعددة، عندما بدأ الباحثون في استقصاء نظام ذكاء اصطناعي في حدود عام 1946 قبل أن يتم إنشاء فرع بحثي كامل للذكاء الاصطناعي بعدها بعشر أعوام. ونحن الآن قد نشهد إحدى تلك المراحل من اقتراب البشر لنظام ذكاء اصطناعي عام. والمقصود بنظام الذكاء الاصطناعي العام هو الذكاء الذي يمتلكه الحاسوب بنفس قدر ذكاء البشر، أي أنه قادر على "الإبداع" و"الإنتاج" كالعقل البشري؛ وفي الحقيقة إن تعريف نظام ما بأنه نظام ذكاء اصطناعي عام بدقة يعد صعبًا لأن تعريف ذكاء البشر نفسه صعب.
لذلك اتجهَ تطور الذكاء الاصطناعي إلى نطاقات محددة كمحركات البحث أو تحليل الصور أو ألعاب متخصصة كالشطرنج مثلًا بدلًا من البحث عن نظام ذكاء اصطناعي عام يمكنه أن يصبح كالبشر حتى وصلت تلك الأنظمة إلى مستويات متقدمة للغاية فعلى سبيل المثال لا يمكن للبشر اليوم الفوز على أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بالشطرنج وحتى أفضل لاعبي العالم لا يمكنه ذلك.
تاريخيًا كان هناك دومًا جدل قائم عن إمكانية تحقق نظام الذكاء الاصطناعي العام المرجو وإن كان هذا هدفًا واقعيًا أو ممكن ولكن مع توقف الذكاء الاصطناعي عن إنتاج أنظمة إلا في مجالات محددة كان هذا النقاش يبدو محسومًا وإن كان إلى حين لصالح الإتجاه بعدم إمكانية تحقق هذا ولكن مع تطور أنظمة ذكاء اصطناعي تعتمد على النماذج اللغوية الكبيرة LLMs فصار هذا الجدل غير محسومًا.
منذ ظهرت أنظمة النماذج اللغوية الكبيرة وعلى رأسها تشات جي بي تي هلع الكثير من المستخدمين بسبب وصولنا إلى نظام ذكاء اصطناعي حقيقي، رغم أننا حتى الآن لم نصل إلى هذا النظام ولكن تقدم النماذج اللغوية أشعر الكثير من البشر بهذا لأن تلك المنصات يمكنها إنتاج حديث ونقاش كالبشر تمامًا مما قد يجعلهم لا يفرقون بين إمكانية أنهم يتحدثون إلى بشر أو إلى آلة!
وهذا بالضبط ما قاله آلان تورينغ -أحد مؤسسي مجال الذكاء الاصطناعي والكمبيوتر نفسه- عندما اقترح أن نظام الذكاء الاصطناعي العام هو الذي لا يمكن التفريق بينه وبين البشر وبرغم أن الأنظمة الموجودة اليوم لم تنجح بشكل كامل في اختبار آلان تورنغ أو ما يسمى بلعبة التقليد كما سماه هو نفسه إلا أنها باتت قريبة للغاية من المرور من هذا الاختبار.
بالطبع قد لا يعني مرور نظام ما من هذا الاختبار بأننا حقًا أمام نظام ذكاء اصطناعي عام كامل ولكن من المهم النظر إلى اختبار صمد إلى ما يقارب من المائة عام في ظل تطور تقني رهيب في مجال الحاسوب، ومعظم مناهضي هذا الاختبار يشبهونه باختبار الغرفة الصينية حيث يكون نظام الذكاء الاصطناعي تحت الاخبار مجرد "يحفظ" ما يريد الشخص الموجود على الجانب الآخر أن يسمعه وهذا بالفعل ما تفعله النماذج اللغوية الكبيرة كشات جي بي تي فهي تقوم على حفظ عدد كبير جدًا من البيانات وتجميعها وتصنيفها لتقديمها إلى المستخدم النهائي بشكل قصير ومبسط رغم أنها لا يمكنها تحليل تلك البيانات حقًا.
إذا هل نحن أمام ذكاء اصطناعي حقيقي قريبًا؟
تعتمد إجابة هذا السؤال عما يعنيه ذلك أولًا وتأثيره علينا ثانيًا، فإن كان معنى وصولنا إلى نظام ذكاء اصطناعي عام هو المرور باختبار آلان تورنغ فقط فقد يكون هذا مسألة وقت -بالطبع كل الاحتمالات مفتوحة- ولكن إن كان هذا معناه تقديم "منتجات" قريبة من البشر فهذا بالفعل تم الوصول إليه في مجالات محددة أما إن كانت القدرة على الإبداع بتعريفه العام فهذا قد يكون بعيد المنال إلى حد كبير، فمثلًا كان نظام الذكاء الاصطناعي التي أنتجته جوجل للعب لعبة جو Go الشبيهة بالشطرنج أمام بطل العالم يحفظ كامل احتمالات اللعبة ولكنه خسر في مباراة أمام بطل العالم لأنه لم يستطع توقع احتمال وحيد خارج الاحتمالات التي تم تدريبه عليها!
ولكن الواقع الآن أن تأثير تلك النماذج أكبر يكثير من سؤالنا حول وصول الذكاء الاصطناعي للنقطة الحرجة أم لا ولكن هو سؤال حول أنظمتنا الاجتماعية ومدى هشاشتها أمام التغيرات التقنية، فهي وإن كانت استفادت بشكل كبير من تطور التقنيات الحاسوبية في السنين السابقة لكنها ليست عصية على التفكك أمام تطور تقني ليس بالبعيد لتحويل أنظمة العمل إلى أماكن أخرى أو استبدال عدد من العمال بأنظمة ذكاء اصطناعي وهذا لم يعد مقصورًا على العمالة غير الماهرة ولكن حتى العمال المهرة في مجالات مختلفة وبمستويات مختلفة من المهارة!
حتى الآن ليس من التعقل الاعتماد على أنظمة لغوية ما زالت حديثة للغاية واستبدال العمال بها ولكن هذا من الممكن أن يحدث في أي وقت قريب مما سيؤدي إلى مشاكل ليست فقط في جانب العمال المطرودين من أعمالهم ولكن حتى في جانب ربحية الشركات التي ستقوم بهذا حسب بعض النظريات الاقتصادية تاريخيًا وبهذا نقف الآن أمام الذكاء الاصطناعي في معضلة تاريخية وسؤال جوهري أمام النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي العالمي لمعرفة أين سيتجه شكل العمل والعلاقة في المستقبل بين العمل والتقنية.
وهذا بالطبع سيدفعنا إلى سؤال آخر حول أخلاقية تطوير تلك الأنظمة التي لم يتخذ العالم حتى الآن موقف قانوني واضح منها بدءًا من حقوق الملكية التي تم تدريب النماذج عليها وصولًا إلى كبح جماح تطويرها قبل استعداد المجتمعات لتقبلها وامتصاصها وحتى الآن توصلت معظم الحكومات لترك الشركات إلى التعامل مع هذا السؤال الأخلاقي وأيضًا الاجتماعي مثل قرار الاتحاد الأوربي بترك القرار لمطوري الذكاء الاصطناعي لتقرير مصير تقنياتهم.
إذا في النهاية نحن أمام حالة من اللا يقين ليست أمام وصولنا إلى نظام ذكاء اصطناعي أذكى من البشر حيث يبدو هذا مستحيلًا في المدى المنظور ولكن أمام نظام ذكاء اصطناعي يستبدل هشاشة مجتمعاتنا بخدمات حاسوبية قد تكون أقل مهارة من البشر ولكنها تكفي الغرض فقط لاستبدالهم.