منصات التواصل وحرية التعبير

منصات التواصل الاجتماعي الشهيرة كفيسبوك وإنستاجرام، وتويتر/إكس، وغيرها لا تستمر للأبد في كونها ساحات للتعبير بحرية، فهي في النهاية، مملوكة لشركات تهدف لتحقيق أقصى قدر ممكن من الربح بلا اكتراث لسلامة مستخدميها خاصة الأقليات والفئات الأكثر عرضة للاستهداف.

أن تكون فلسطينيًا على الإنترنت

منذ السابع من أكتوبر ومنصات التواصل أصبحت الساحة الرئيسية لنشر المحتوى التوثيقي لما يحدث في فلسطين من إبادة جماعية وانتهاك لحقوق الإنسان. ورغم أن منصات التواصل تدعي أنها مساحات تدعم حق التعبير وتسعى إلى تعزيز حقوق الإنسان، إلا أن نهج تلك المنصات مع المحتوى المتعلق بفلسطين كان غير ذلك.

لدى منصات ميتا تاريخ من الانحياز ضد انتشار الأصوات الداعمة لحقوق الفلسطينيين، سواء عن طريق الحذف، أو الإزالة، أو تقليل ظهور المحتوى (shadowban). ظهر الأمر جليًا في مظاهرات الشيخ جراح، حيث لم تحذف ميتا المحتوى فقط بل علّقت حسابات المستخدمين الذين شاركوا ذلك المحتوى أو منعتهم من إضافة تعليقات أو البث المباشر، وقمعت الهاشتاجات الداعمة لفلسطين.

ومنذ السابع من أكتوبر، أكدت ميتا على انحيازها ضد الفلسطينيين، فقد تلاعبت بخوارزميات فلترة المحتوى العربي وخفضت مستوى ثقة الخوارزمية في أن المحتوى بالفعل يخالف سياساتها وبالتالي يجب حذفه من 80% إلى 40% للمحتوى العربي، بل وخفضته إلى 25% للمحتوى الفلسطيني. واستمرت ميتا في سياساتها من حذف للمحتوى أو تعليق حسابات المستخدمين أو خفض ظهور منشورات أو قصص المستخدمين دون إشعار. لم يتمكن المستخدمون من تقديم طعن على قرارات ميتا، بسبب وجود خلل في آلية الطعن، مما جعل فرص استعادتهم لحساباتهم أو محتواهم معدومة.

وزيادة على ذلك، حدثت ميتا إعدادات إنستاجرام وفعلت خيار تخفيض معدل عرض المحتوى السياسي لكل المستخدمين، مما حد من انتشار المحتوى الفلسطيني الموثق للإبادة.

وقد وثقت أيضًا منظمة هيومان رايتس واتش حالات حظر وحجب المحتوى السلمي الداعم لفلسطين في أكثر من 60 دولة حول العالم، باللغة الإنجليزية بشكل أساسي، وكلها تعبر عن الدعم السلمي لفلسطين.

في مئات الحالات الموثقة، اعتمدت ميتا على سياسة "المنظمات الخطرة والأفراد الخطرون"، التي تضم بشكل كامل قوائم "المنظمات الإرهابية" التي حددتها الولايات المتحدة. استندت ميتا إلى هذه القوائم وطبقتها بشكل شامل لتقييد التعبير المشروع بشأن الأعمال القتالية بين إسرائيل والفصائل المسلحة الفلسطينية.

كما أساءت ميتا تطبيق سياساتها بشأن "المحتوى العنيف والصادم"، و"العنف والتحريض"، و"الخطاب الذي يحض على الكراهية"، و"العُري والنشاط الجنسي للبالغين". قالت هيومن رايتس ووتش إن تطبيق سياسة "المحتوى الذي يتميز بأهمية إخبارية" من قبل ميتا شابته تناقضات، إذ أزالت عشرات المنشورات التي توثق الإصابات والوفيات الفلسطينية التي لها قيمة إخبارية.

منظمة هيومان رايتس واتش في ديسمبر 2023.

ورغم حصار تلك المنصات منذ السابع من أكتوبر للمحتوى المتعلق بتوثيق الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين، إلا أنها لا تتخذ نفس الإجراءات ضد المحتوى الصهيوني المحرض على العنف، فهي لا تهتم بزيادة عدد المشرفين على المحتوى العبري، ولم تهتم بتطوير خوارزميات تصنيف باللغة العبرية لتحديد المحتوى المشجع على الإبادة الجماعية وغيره من خطاب الكراهية والتحريض المنتشر بكثرة على الحسابات الصهيونية. في سبتمبر 2023 قالت ميتا أنها انتهت من تطوير خوارزمية تصنيف لخطاب الكراهية باللغة العبرية، ولكن تبين في أكتوبر 2023 أن تلك الخوارزمية ما زالت ليست مفعلة، ما يجعلنا نتساءل عن وظيفة معايير المجتمع الحقيقية.

حذف ميتا للمحتوى الموثق للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيين في غزة رغم سماحها مؤخرًا للمحتوى الذي يتضمن كلمة "شهيد" لا يعني سوى أنها لا تريد سماع الفلسطينيين يعبرون عن أنفسهم ومعاناتهم، فقط تريد سماع أخبار استشهادهم دون أن يبكيهم أو يدافع عنهم أحد.

منصة تويتر/إكس لها نصيبها أيضًا، فالمحتوى العنصري ازداد أضعاف منذ استحواذ إيلون ماسك على المنصة وتسريحه الجماعي للموظفين، مما أدى إلى خفض عدد المشرفين على المحتوى بشكل حاد. انعكس ذلك على حجم المحتوى المحرض على الفلسطينيين في غزة، فقد وثق حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي ما يزيد عن 10 ملايين منشور تحريضي بالعبرية على مختلف منصات التواصل، احتوت منصة تويتر/إكس على 75% من تلك المنشورات المحرضة.

ورغم تساهلها في تطبيق الرقابة على المحتوى الداعم لفلسطين مقارنة بمنصات ميتا، إلا أنها أيضًا تحظر حسابات الفلسطينيين ولا تفرض رقابة تذكر على المحتوى الصهيوني المتطرف.

كانت لمنصة يوتيوب أيضًا دور في قمع أصوات الفلسطينيين والتحريض عليهم، فهي أيضًا تعتمد على الخوارزميات لتقييم المحتوى وتسعى للربح فوق كل شيء. عقب السابع من أكتوبر، أنفقت وزارة الخارجية الإسرائيلية ملايين الدولارات في حملة إعلانات استهدفت مستخدمي المنصة في أوروبا تحرض على الفلسطينيين وتتوعد بالرد على حماس، وبعض من تلك الإعلانات كان في صورة فيديوهات موجهة للأطفال! لم تزل المنصة أغلب تلك الإعلانات رغم انتهاكها لسياسات جوجل الإعلانية في حين أنها حذفت العديد من المحتوى القادم من فلسطين، أو حتى يدعمها.

علاوة على ذلك، أبطلت المنصة إمكانية التربح من الإعلانات لبعض صانعي المحتوى الذين يتناولون الأحداث في فلسطين.

تجدر الإشارة إلى أنّ الفلسطينيين/ات أنفسهم/ن لا يستطيعون الاستفادة من عائدات الإعلانات،فقد أغلقت يوتيوب في وجه فلسطين باب المشاركة في برنامج تقاسم العائدات. برنامج شركاء يوتيوب، والذي يتيح المجال للمستخدمين لكسب المال على يوتيوب، متاح في 137 دولة، بما في ذلك لمستخدمين/ات من الدول المجاورة: لبنان، الأردن، مصر وإسرائيل أيضًا. هذا يعني أنّ المستخدمين/ات من خارج الأراضي الفلسطينيّة المحتلة فقط يستطيعون جني الأرباح من محتواهم/هن عن فلسطين، مع تقييد قدرة الفلسطينيّين/ات على سرد قصصهم/هن الشخصيّة، الأمر الذي يقيّد حرية التعبير.

تقرير حملة - المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي في أبريل 2024.

أيقونات شهر الفخر ليست المبتغى

في فبراير 2023، نشرت منظمة هيومان رايتس واتش تقرير عن الاستهداف الذي يتعرض له الأفراد الكوير على منصات ميتا (فيسبوك وإنستاجرام) وجرايندر وتويتر/إكس.

أشكال الاستهداف التي يتعرض لها أفراد مجتمع الكوير كثيرة، فهي تتضمن التصيد، والابتزاز، والدوكسنج، والفضح، والتحرش الإلكتروني، بما في ذلك التهديدات بالقتل، والاغتصاب، وأشكال أخرى من العنف الجسدي. تلعب السلطات البوليسية دورًا في ذلك، وتبدأ بنفسها حملات استهداف وفضح لصور وبيانات الأفراد الكوير، مما يعرضهم/ن لتحرش إلكتروني أكبر قد يصل إلى استهدافهم/ن في الواقع أو كشفهم/ن لعائلاتهم/ن.

تفشل تلك المنصات في التعامل مع محتوى الكراهية وحذفه وحماية حسابات مجتمع الكوير من الحملات الممنهجة. رغم سياسات تلك المنصات التي تنص على رفضها لمحتوى الكراهية، إلا أنها مع ذلك غالبًا ما تبقي محتوى الكراهية المنشور بدعوى امتثاله لسياستها حتى مع استمرار البلاغات.

على الجانب الآخر، غالبًا ما تُحذف حسابات الأفراد الكوير نتيجة للحملات الممنهجة ضدهم/ن حتى مع امتثالهم/ن لسياسات تلك المنصات. وعند تقديم طعن على تلك القرارات تطلب المنصات من المستخدمين بيانات شخصية حساسة من أجل التحقق.

عندما يصبح فيسبوك غرفة صدى

اعتماد منصات التواصل على خوارزميات التفاعل لعرض موجز المنشورات، والتصنيف، والاقتراحات يؤدي في النهاية إلى انتشار المحتوى الذي يدعو إلى الكراهية ويحرض على العنف والتمييز. ففي ميانمار، كان فيسبوك هو الوسيلة الأكثر فعالية في نشر المحتوى المعادي للروهينجا.

اعتمد جيش ميانمار والجماعات البوذية القومية المتطرفة على كيفية عمل خوارزميات فيسبوك في إغراق المنصة بمحتوى معادي للمسلمين، وادعاء سعي المسلمين للاستيلاء على السلطة، وتصوير الروهينجا كغزاة. اعتبرت الخوارزميات أن التفاعل الكبير على المحتوى يعني أنه محبوب، ونشرته على نطاق أوسع، شُورِك ذلك المحتوى آلاف المرات مما أجج من الغضب تجاه الروهينجا حتى انتهى الأمر بارتكاب أعمال العنف في العالم الواقعي .

في عام 2014 حاولت ميتا دعم مبادرة مناهضة للكراهية أنتجت خلالها ستيكرات لمستخدمي فيسبوك تحمل عبارات مثل "فكِّر قبل المشاركة" و "لا تكنْ سببًا للعنف". اكتشف النشطاء أن خوارزميات فيسبوك فسرت استخدام تلك الستيكرات بأن بعض المنشورات التي تستعملها هي ذات محتوى محبوب، وزادت من ترويجها، وبدلًا من تقليص حجم انتشار محتوى الكراهية على فيسبوك، أدت الخوارزميات إلى زيادة انتشاره لعدد أكبر من المستخدمين.

فيسبوك كان أداة أساسية للجماعات المتطرفة لنشر المحتوى المحرض ضد الروهينجا، والذي أدى في النهاية إلى قتلهم، وتعذيبهم، واغتصابهم، وترحيلهم ضمن حملة التطهير العرقي التي قامت بها قوات الأمن في ميانمار.

وصل المحتوى الذي يحرِّض على العنف والتمييز إلى أعلى المستويات في القيادات العسكرية والمدنية. ففي عام 2017، نشر قائد الجيش في ميانمار، الجنرال مين أونغ هلاينغ على صفحته على فيسبوك: ”إننا نعلن صراحةً وعلى الملأ أن العرق الروهينغي لا يشكّل جزءًا من بلادنا على الإطلاق“. وفي فبراير/شباط 2021، تحرَّك للاستيلاء على السلطة في انقلاب.

[…]
وخلُصت بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصِّي الحقائق في ميانمار إلى أن ”دور وسائل التواصل الاجتماعي [كان] مهمًا” في التحريض على الفظائع في بلد يُعتبر فيه “فيسبوك هو الإنترنت“.

تقرير منظمة العفو الدولية في سبتمبر 2022.

عيب

تفرض المنصات أيضًا رقابة شديدة على المحتوى المتعلّق بالصحّة والحقوق الجنسية والإنجابية، وحتى المحتوى الإعلامي والفني. يواجه الأفراد والمنظمات حالات عديدة من إزالة المحتوى والحسابات، ورفض الإعلانات، وحصر الانتشار العضوي بدعوى أن منشوراتهم تحتوي على "محتوى للبالغين" أو "العري والنشاط الجنسي". بينما لا تحدد سياسات المنصات بوضوح المحتوى الذي يعتبر "جنسيًا" أو "بالغًا" أو "غير لائقًا".
اعتماد المنصات على الخوارزميات لأتمتة الإشراف على المحتوى يؤدي في النهاية إلى فرض قيود على منشورات وإعلانات لا تخالف سياسات تلك المنصات. ففي دراسة أجرتها منظمة سمِكس في أبريل 2024 حول قمع منصات التواصل محتوى الصحة والحقوق الجنسية والإنجابيّة على مواقع التواصل الاجتماعي في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا، وُثقت حالات إزالة للمحتوى متعلق بالصحة والحقوق الجنسية والإنجابية مثل الخدمات الطبية، والصحة النفسية، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والعلاقات، والختان، وفيروس نقص المناعة البشرية، وتاريخ الممارسات المثلية في العالم العربي.

نظرًا لعوامل لا تُعَدّ ولا تُحصى، مثل الوضع الاجتماعي والاقتصادي، والأعراف المجتمعية، والتقاليد، وإمكانية الوصول إلى التعليم، والقوانين، والبيئة الأسرية، يمكن أن يختلف الوصول إلى المحتوى التعليمي والمعلومات المتعلّقة بالصحّة والحقوق الجنسيّة والإنجابيّة بشكلٍ كبيرٍ. وتظهر عوائق كثيرة تحول دون تحقيق هذه الظروف في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، ما ينعكس بتحديات كثيرة منها تعذّر الوصول إلى خدمات الإجهاض وصعوبة الوصول إلى وسائل منع الحمل. عندما يفشل المجتمع والنظام التعليمي والمؤسّسات الصحية وغيرها من الجهات الفاعلة الحيوية في توفير التثقيف الكافي حول الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة، بما في ذلك التوجيه والمناقشة، يمكن أن يكون المحتوى عبر الإنترنت، إلى حدٍّ ما، مصدر معلومات أساسيًا وأحيانًا منقذًا للحياة. ولكن تشكّل سياسات الإشراف على المحتوى من منصّات وسائل التواصل الاجتماعي عقبةً أمام تداول المحتوى المتعلّق بالصحّة والحقوق الجنسيّة والإنجابيّة، ما يفرض تحديًا خطيرًا على الناشطين/ات الحقوقيين/ات والمعلّمين/ات والخبراء والمنظّمات غير الحكومية الناشطة في هذا القطاع.

نتيجة لتفاوت الالتزام بالسياسات التي تنتهجها منصات التواصل الاجتماعي، غالبًا ما تفشل في تطبيقها بشكل شفاف ومتسق، يمكن إخضاعه للمساءلة. ونتيجة لذلك أحيانًا ما يظل المحتوى المؤذي على المنصات حتى وإن كان يخالف سياستها ويؤدي لعواقب جسيمة للمستخدمين في الواقع.

ومن ناحية أخرى، فإن المنصات تحجب، وتحذف، وتقيد المحتوى غير المخالف بشكل غير متناسب، قامعة للمعارضة السياسية والأصوات الموثقة لانتهاكات حقوق الإنسان على فيسبوك وإنستاجرام، وتويتر/إكس ويوتيوب.

تفشل منصات التواصل في الحد من خطاب الكراهية ضد الأقليات المختلفة، فتجد محتوى ضد أصحاب البشرة السمراء، والمهاجرين/ات، واللاجئين/ات، والمثليين/ات، والعابرين/ات وغيره من محتوى اليمين المتطرف، وإن كنت تتصور/ي أن اليهود هم أكثر فئة تتمتع بالحماية على منصات التواصل، فحتى هم يتعرضون لخطاب كراهية مليء بنظريات المؤامرة، ففي عين اليمين المتطرف، كل ما هو "آخر" غير مرغوب بوجوده.

لا تتخذ منصات التواصل الإجراءات اللازمة لضمان عدم إساءة استخدامها، تسعى الشركات مثل ميتا وإكس إلى التوسع والانتشار، دون الوضع في الاعتبار الحاجة إلى توفير وسائل تحمي مستخدميها. مع سعيها لاجتذاب ملايين المستخدمين، وتطويرها لخوارزميات لا غرض لها سوى إبقاؤهم لأطول وقت ممكن عليها. لا تعين تلك الشركات عدد كافي من المشرفين للغات المختلفة، ولا تطور خوارزميات تصنيف اللغة بالشكل الذي يضمن حماية مستخدميها من الاستهداف، ولا تحدد سياسات إزالة المحتوى بشكل واضح.

في المقابل، منصات الفديفرس توفر تجربة مستخدم أفضل، فهي توفر سياسات واضحة بشأن المحتوى المسموح به، ولا تستعمل خوارزميات لتقييم المحتوى، ولا تحتوي على إعلانات وبالتالي لا تتعقب المستخدمين، ويتوزع المستخدمون على عدة خوادم صغيرة نسبيًا مما يجعل مهمة الإشراف على المحتوى أسهل، وأيضًا، غالبًا ما يتفاعل مشرفون الخوادم مع المستخدمين ومشرفين الخوادم الأخرى بشكل يجعل تجربة الإبلاغ عن الشكاوى أفضل من تلك التي تقدمها منصات التواصل الهادفة للربح.

فمتى تتعلم شركات ميتا، وإكس، وجوجل، ومايكروسوفت من الفديفرس حرية التعبير؟